نقلت اليكم السكان قبل القرن الخامس عشر والحلقات المفقودة بين الماضي والحاضر .. بقلم: د. أحمد الياس حسين
وقد أوردت المصادر العربية المبكرة أسماء العديد من القبائل التي عاشت في شمال وشرق وغرب السودان في فترة التسعة قرون التي سبقت ظهور المسميات القبلية الحالية يمكن التعرف عليها باختصار بأخذ أمثلة من: أ.قبائل النوبة ب. قبائل الصحراء الغربية ج. قبائل شرق السودان.
.ومن ضمن قبائل شرق السودان كان للبلين تاريخ كبير وواسع .
كانت المنطقة الواقعة إلى الشمال من الهضبة الاثيوبية وحتى صحراء قوص شمالاً ذات موارد مائية وكثافة سكانية عالية. فقد ورد ذكر عدد كبير من القبائل وفروعها وأفخاذها وتداخلها في هذه المناطق مثل:
البليين والحداربة والزنافجة وكديم المعروفة بعجات والخاسة وبازين وبيواتيكة وقصعة والماتين ورقابات وحنديبا وسكان تفلين وأمم جوار تقلين وبازين وسكان نهر سنسابي. وقد وردت معلومات بعضها مفصل وبعضها مقتضب عن هذه القبائل. سنتناول فيما بعد قبيلة البليين مثال لهذه القبائل.
العرب في مصادر القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين
ويلاحظ أن المصادر العربية لم تتطرق لذكر القبائل العربية في السودان وبخاصة تلك التي كتبت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين. فقد شهد القرن الرابع عشر تحول ملوك المقرة للاسلام ونهاية العمل في مناطق التعدين في بلاد البجة ونهاية نشاط ميناء عيذاب، وقد اصطلح على جعل هذه الأحداث فترة اجتياح القبائل العربية للسودان.
وإذا راجعنا مصادر القرن الرابع عشر الميلادي التي تناولت بعض أخبار السودان وجدنا أن الدمشقي الذي تحدث عن مناطق النوبة والبجة لم يشر إلى أي قبائل عربية في تلك المناطق. وقد تناول النويري أخبار صراع المماليك ومملكة المقرة المسيحية حتى تحول ملوكها للاسلام، وتحدث عن مشاركة الأعراب في تلك الحروب، لكنه لم يتطرق إلى هجرة أو تدفق قبائل عربية في أراضي السودان.
كما كتب النويري عن الحملة التي أرسلها السلطان المملوكي الناصر عام 716 هـ/1317 م إلى شرق السودان والتي دخلت من عيذاب إلى سواكن ثم توغلت حتى منطقة التاكا (كسلا الحالية) ورجعت عن طريق دنقلة. وكان الغرض من الحملة مطاردة بعض الأعراب في الصحراء الشرقية. غير أن الحملة لم تظفر بالقبض على الأعراب، بل لم تذكر على طول طريقها أنها قابلت أي جماعات أو قبائل عربية. لكن قابلت الحملة بالقرب من نهر عطبرة-كما عبر النويري – "طوائف من السودان بقرب المياه في أودية هناك، فقتل العسكر منهم وأسر وسبى"
أما ابن بطوطة الذي دخل بلاد البجة من البحر الأحمر مرتين عام 726 هـ/1326م وعام 732 هـ/1332 م فقد قابل بالقرب من سواكن "حي من العرب يعرفون بأولاد كاهل مختلطين بالبجة عارفين بلسانهم" وفي الصحراء بين سواكن وعيذاب وجد "عرب جهينة وبني كاهل وطاعتهم للبجة" فالعرب الذين وجدهم ابن بطوطة في بلاد البجة بعد نحو عقد ونصف من تحول ملوك المقرة للاسلام كانوا تحت طاعة البجة ويتحدثون لغتهم.
أما مصادر القرن الخامس عشر الميلادي التي تبدأ بابن خلدون (ت 808 هـ/1406) صاحب النص المشهور عن قبيلة جهينة حيث ذكر أنهم "غلبوا على بلاد النوبة، وفرقوا كلمتهم وأزالوا ملكهم..." وقد كتبت مقالاً نشر في مجلة الدراسات السودانية التي يصدرها معهد الدراسات الافريقية بجامعة الخرطوم المجلد رقم 15 أكتوبر 2009 خلصت فيه إلى أن قبيلة جهينة كانت غائبة تماماً عن كل الأحداث التي صاحبت وأعقبت تحول ملوك مملكة المقرة للاسلام.
أما القلقشندي الذي توفى بعد ابن خلدون (ت 821 هـ/1418م) فقد قال عن دنقلة "وهي الآن مملكة مستقلة بذاتها" وبين رسم المكاتبة إلى ملوكها. ولم يذكر جهينة أو غلبتهم على بلاد النوبة أو زوال ملكهم" بل أشار إلى أن ملكهم لا يزال قائماً على عهده. ولم يتطرق القلقشندي إلى ذكر أي قبيلة عربية دخلت السودان.
وآخر ممثلي كتاب هذا القرن هو المقريزي المتوفى في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي (9 هـ) فقد ذكر حدثين عن النوبة بعد تحول ملوكها للاسلام الأول عن صراع بين بعض أفراد الأسرة المالكة في دنقلة بعد نحو نصف قرن من تحول ملوك دنقلة للاسلام. تدخل في هذا الصراع أعراب بني جعد والعكارمة وبني الكنز، فوفد أحد أمراء النوبة واسمه ركن الدين كرنبس مستنجداً بالمماليك فأمدوه بقوة أعادت الهدوء إلى المنطقة وهزمت الأعراب.
والحدث الثاني كان أيضاً بخصوص صراع حدث على عرش مملكة دنقلة، فقد وفد ناصر ملك النوبة إلى السلطان المملوكي برقوق عام 800 هـ/1397م متظلماً من ابن عمه. ولم يوضح المقريزي نتيجة هذه الزيارة، غير أنها تشير إلى أن مملكة النوبة كانت لا تزال قائمة بعد ما يقرب من قرن من الوقت الذي حدده ابن خلدون لإزالة جهينة مُلْك النوبة.
ويقودنا كل ذلك إلى التساؤل عن مصادر المعلومات التي جعلت من هذين القرنين الفترة التي اجتاحت فيها القبائل العربية أراضي السودان، وترتب عليها النهاية المبكرة لمملكة دنقلة كما تواتر في الروايات، ثم تلى ذلك تحالف القبائل العربية واجتياحها لمناطق وسط السودان والذي انتهى بقيام سلطنة سنار في مطلع القرن السادس عشر الميلادي. من أين أتت هذه المعلومات إن لم ترد في مصادر القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين؟
وننتقل بعد هذا إلى استعراض مثال من احدى قبائل شرق السودان لنتعرف عليها في الفترة السابقة للقرن الخامس عشر ولنبحث عنها بين قبائل الشرق بعد القرن الخامس عشر، تلك هي قبلة البليين.
البليون
ورد ذكر البليون عند الادريسي المتوفى عام 560 هـ / 1165 م وبعد ثلاث قرون ردد ابن الوردى المتوفى سنة 861 هـ / 1457 م بعض ما ذكره الادريسي عنهم. فقد ورد عنهم ما يلي:
أورد الادريسي نصين عن البيليين أحدهما (في مسعد، ص 131) عند الحديث عن مدينة أسوان جاء فيه:
1. " وربما أغار على أطرافها خيل السودان المسمين بالبليين. ويزعمون أنهم روم وأنهم على دين النصرانية من أيام القبط وقبل ظهور الإسلام غير أنهم خوارج في النصارى يعاقبة، وهم منتقلون فيما بين أرض البجة وأرض الحبشة ويتصلون ببلاد النوبة وهم رحالة ينتقلون ولا يقيمون بمكان مثل مما تفعله لمتونة الصحراء الذين هم بالمغرب الأقصى."
2. والنص الثاني الذي أورده الادريسي عن البليين (مسعد ص 135) جاء فيه: "وبين أرض النوبة وأرض البجة قوم رحالة يقال لهم البَلِيّون، ولهم صرامة وعزم وكل من حولهم من الأمم يهادنونهم ويخافون ضرهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية وكذلك جميع أهل بلاد النوبة والحبشة. وأكثر أهل البجة نصارى خوارج على مذهب اليعاقبة كما قدمنا ذكره."
أما نص ابن الوردي في كتابة "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" عند حديثه عن ميناء عيذاب (في مسعد ص 374) فقد جاء كما يلي:
3. "وبين البجة وبين النوبة قوم يقال لهم البليون أهل عزم وشجاعة يهابهم كل من حولهم من الأمم ويهادنونهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية."
فالنصوص حددت مكان البليين ووضحت بعض صفاتهم كما يلي:ـ
1. تحديد المكان:
حدد الادريسي في نص رقم 1 منطقة البليين بأنها بين أرض النوبة وأرض البجة، وهي نفس الحدود التي ذكرها ابن الوردي في النص رقم 3. ولما تناول ابن الوردي البليين عند الحديث عن ميناء عيذاب على البحر الأحمر، فإن ذلك قد يدل أن امتداد حدود البليين شرقاً يصل إلى ميناء عيذاب. ووضح نص الادريسي رقم 2 أن امتداد مناطق البليين غرباً تصل إلى حدود مدينة أسوان حيث يغيرون على أطرافها. وبناءًا عليه فإن هذه النصوص قد حددت منطقة البليين ما بين أسوان غرباً وعيذاب على البحر الأحمر شرقا وتمتد جنوباً حتى حدود الحبشة.ً
2.أوصاف البليين:
2-1. وصف الادريسي البليون في النص رقم 2 بأنهم رحالة، ووضح في النص رقم 1 أماكن تجوالهم بأنها بين أرض البجة والحبشة والنوبة. ويدل ذلك على أن مناطق تجوالهم واسعة ولا بد أنهم يشاركون غيرهم من قبائل المنطقة التجول في تلك الأراضي. وقد وصف الادريسي تجوالهم هذا مثل تجوال قبائل لمتونة (الصنهاجية نص رقم 1) التي كانت تتجول في المنطقة الصحراوية الواسعة بين جنوب المغرب الأقصى شمالاً وحتى مناطق نهر السنغال جنوباً.
ولمتونة قبيلة كبيرة قامت على أكتافها دولة المرابطين في القرن الخامس الهجري (11 م) والادريسي
الذي عاش بين صقلية والأندلس والمغرب العربي كان على علم ودراية بحجم وقوة قبيلة لمتونة
الصحراوية, ووصف الادريسي للبليميين بقبيلة لمتونة يشير إلى حجم وقوة قبيلة البليين في الصحراء
الواقعة ما بين مصر والنوبة والحبشة.
2-2. وكانت قبيلة البليين كبيرة وقوية وذات وجود مؤثر في المنطقة، فقد اتفق الادريسي وابن الوردي (النصين 2 و3) على وصف الببليين بالقوة والشجاعة، ووضحا كيف أن القبائل الأخرى المتصلة بها في المنطقة تهابها. وتشير النصوص إلى العلاقة التي كانت قائمة بين القبائل في المنطقة، فرغم المنافسة الطبيعية بين القبائل البدوية على أماكن المياه والكلأ إلا أن علاقة البليين بجيرانها كانت تتسم أيضاً بالطيبة وحسن الجوار يدل على ذلك الهدايا التي كانت تصلهم من جيرانهم، ولا بد أنهم كانوا أيضاً يهادونهم.
2-3. وقد أشارت النصوص إلى جيران البليين الذين يهابونهم ويرسلون إليهم الهدايا بـ "من حولهم من الأمم" (النصين 2 و 3) والامم هنا هم النوبة والارترين والمسلمين في جنوب مصر الذين يصلهم البليون في تجوالهم كما ورد في النص. ويفهم من ذلك أن العلاقات بين البليين وبين تلك الدول كانت على درجة قوية من الصلات، ودرجة متقدمة من التنظيم. وفي واقع الأمر هنالك الكثير من الاشارات في المصادر العربية وضحت نضج التنظيات السياسية والادارية لقبائل المنطقة مثل ممالك البجة التي ذكرها اليعقوبي، والتنظيمات القبلية التي أشار إليها المسعودي وابن حوقل.
2-4. ولا يقتصر تنظيم علاقة البليين مع الأمم المجاورة لها فقط، فلا بد وأن تنتظم علاقاتها مع غيرها من قبائل البجة وممالكهم التي وردت الاشارات إليها في المصادر العربية مما يوضح أن المناطق الواقعة بين مملكة المقرة غرباً والبحر الأحمر شرقاً وبين مملكة علوة والحبشة جنوباً والمسلمين في مصر شمالاً قد كانت في القرون الكثيرة السابقة لقيام سلطنة الفونج مأهولة بالسكان.وشهدت قيام أنظمة سياسية وإدرات قبلية مستقرة.
2-5. ووضح النص رقم 1 أن وجود البليين في المنطقة يرجع إلى الفترة السابقة لدخول الاسلام مصر في القرن السابع الميلادي، وأنهم اعتنقوا المسيحية على مذهب اليعاقبة مثل ممالك النوبة المسيحية والذي تم في منتصف القرن السادس الميلادي.
2-6. ربط النص رقم 1 البليين بالروم. ومن المعروف أن الروم مقصود بهم البيزنطيين الذين كانوا يحكمون مصر قبل الاسلام.
2-7 كما وضح النص رقم 1 أن البليين أصحاب خيل يغيرون بها على جيرانهم.
فالبليون كانوا في القرن الثاني عشر الميلادي – عصر الادريسي - قبيلة بدوية قوية وكبيرة تتجول في منطقة واسعة مابين حدود أسوان والحبشة والبحر الأحمر. ويبدو البليون ذوي قوة ونفوذ في المنطقة وعلاقات مع جيرانهم في الشمال والجنوب. فمن هم البليون؟ تعددت وجهات نظر الباحثين والرحالة في التعرف عليهم وفيما يلي بعض تلك الآراء:
1. يميل البعض مثل كراوفورد وروسيني إلى ربط بليين الادريسي ببليين كرن.
2. كما ربط كيروان بين بليين الادريسي وبين البليميين
3. رأى مصطفى مسعد أن بليين الادريسي هم البليميين.
يقول كراوفورد أن بلين هو الاسم الذي يطلقه الباقوس Bagos في منطقة كرن على أنفسهم. ويرى روسيني أن وجود البليين في هذه المناطق قد يرجع إلى القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي، وأنهم بالتأكيد كانوا في شمال اثيوبيا في القرن الرابع عشر الميلادي. ولذلك إفترض أنهم بليين الادريسي، وقد اتضح مما ذكره الادريسي أن تجوالهم كان يمتد حتى حدود الحيشة.
اما كيروان ومسعد فيريان أن بليين الادريسي هم البليين. والبليميون هم فرع قديم من فروع قبائل البجة. وقد وضحت الأدلة الآثارية مثل نقش كلابشة المروي والوثائق التي جمعت عن منطقة شمال السودان ما بين القرنين الثامن قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي ونشرتها جامعة بيرقن ووثائق الجبلين المنشورة في كتاب مصطفى محمد مسعد "الاسلام والنوبة في العصور الوسطى" في الملحق رقم 3 أرجعت كل تلك الوثائق وغيرها من المصادر الكلاسيكية وجود البليميين إلى القرون السابقة للميلاد في المنطقة الواقعة جنوب أسوان. كما أمدتنا ببعض المعلومات عنهم حتى القرن السادس الميلادي.
وتوضح السجلات المروية أن البليميين قد استقروا منذ القرن الخامس قبل الميلاد على طول المنطقة الواقعة من اسوان حتى منطقة دنقلا (كلايدي ونترز، بينة مروية ص2). وذكرت المصادر اليونانية السابقة للميلاد (انظر Mac Michael, A History of the Arabs In the Sudan vol.1 p 38) أن المناطق الواقعة حول أسوان هي مواطن البليميين الرئيسية، ويمتدون جنوبا وشرقا نحو حدود اكسوم وميناء أدولس على البحر الأحمر. وهذا الوصف يتطابق مع مواطن البجة الحالية.
فالمصادر القديمة - السابقة للميلاد- تناولت كل سكان المنطقة المعروفة الآن ببلاد البجة تحت اسم البليميين مما يؤكد أن شعوب هذه المنطقة أُشير إليها في المصادر القديمة مرة تحت اسم البليميين وأخرى تحت اسم المِجا ومرة أخرى تحت اسم التُرُجلُدايت. وقد ذكر ماكمايكل (نفس المكان السابق) أن الكتاب المسيحيين المبكرين أطلقوا اسم البليميين على البجة.
لم يكن استقرار وامتزاج البليميين بالسكان السابقين في جنوبي أسوان فقط، بل توضح الآثار الراجعة إلى فترة ما قبل الميلاد (بَرنارد فقرات 116, 123, 136) أن استقرارهم امتد شمالاً في منطقة طيبة في صعيد مصر. وقد ازداد عدد البليميين منذ القرن الأول الميلادي. ويبدو أنهم أصبحوا القوة الرئيسة بين الزعامات المحلية وتشربوا بالثقافة المروية. فقد نقل مسعد عن مصادره أن البليميين بدأوا هجومهم على الرومان عام 250م. وفي نفس الوقت ورد في نص عثر عليه في فيلة – جنوب أسوان - أن ملك مروي تقردماني Teqeridamani 246-266م أرسل سفارة إلى الأمبراطور الروماني حاملاً إليه الهدايا.
ويذكر ترمنجهام سفارة بقيادة أمير بليمي يدعى Pa-smun Ibn Paesi ويصف الأمير نفسه بأنه السفير العظيم إلى روما. وتحالف البليميون مع زنوبيا (الزباء) ملكة تدمر في سوريا عندما هاجمت الرومان في مصر. واحتلوا مدينتي Coptos & Ptolemais في منطقة طيبة.
ويبدو أن البليميين قد بدأوا بسط نفوذهم في المنطقة حتى سواحل البحر الأحمر، لأن إحدي الوثائق الرومانية تحدثت عن تعرض بعض القواعد الرومانية على البحر الأحمر لغارة من سفن البليميين عام 378 م. وربما بدأ إسم البليميين ينتشر بعد امتداد نفوذهم شرقاً فأطلق الرومان إسمهم على سكان المنطقة التُرُجلُدايت. وقد يؤيد ذلك أيضا ما تردد في المصادر عن ترادف استخدام البيليميين والمِجا والتُرُجلُدايت.
وقام البليميون في عام 429 م بغارات على منطقة طيبة والواحة الخارجة التي كانت مركزا رومانيا يطل على حدودهم الصحراوية. وما توفر من معلومات يمكن أن يشير إلى حقيقتين هامتين: الأولي أن البليميين أصبحوا قبل انهيار مروي بوقت طويل سادة المنطقة وجنرالات النهر، ويؤكد ذلك – ثانياً - تطور نظام حكمهم مما يجعل قيام مملكتهم – تحت ظل المرويين – أمراً مقبولاً. هذه الدلائل تشير إلى أنه من المقبول جدّاً أن يسعى البليميون إلى وراثة مملكة مروي بعد سقوطها. ويزيد ذلك تأكيداً نقش كلابشة الذي تضمن في موضعين الاشارة إلى كونهم ورثة مروي. وقد وردت اسماء ستة ملوك بليميين فيما جمعه بَرنارد من نصوص، ثلاث منهم قدرت تواريخ حكمهم في القرن الخامس الميلادي والثلاث الباقين في القرن السادس الميلادي.
والوثائق الأخرى المرتبطة بالبليميين هي ثلاث وثائق مكتوبة على جلد غزال باللغة اليونانية عثر عليها فلاح مصري في منطقة الجبلين على بعد 25 ميل حنوب مدينة الأقصر. وقد ترجمها إلى الانجليزية كيراون وإمِري، ونقلها إلى العربية وضمنها كملاحق مصطفى مسعد في كتابه الاسلام والنوبة تحت عنوان "الوثائق الدالة على استقرار البليميين في منطقة طيبة" وقد أشار برنارد إلى الوثيقتين الأولى والثانية فقرات رقم 336 و334.
الوثيقة الأولى جاءت ترجمتها عند (بَرنارد رقم 336) كالآتي:
"أنا شاراشن ملك البليميين، أكتب إلى أولادي شاراشن وشاراتكور وشاراهيت، أنه طبقاً لأمري هذا قد منحتكم حكم الجزيرة المعروفة باسم تناري، وألا يقف في سبيلكم أحد، وإذا أثار الرومان مشاكل وامتنعوا عن دفع الأتاوة العادية لكم فإنه لا الفيلارك ولا الهيبوتيرانوس يمنعانكم من إرغام الرومان على دفع العطايا العادية عن جزيرتي. شاراشن الملك، تنتكنا: أمير القصر – شاهد، كتبه سانسانوس في اليوم الرابع والعشرين من شهر ....."
وهنالك وثيقة أخرى – رقم أربعة - ذكرها بَرناد clause no. 339، وهي عبارة عن أمر ملكي أصدره الملك باراخيا (Barakhia) إلى صوفيا يشير إلى وضعها أو إقامتها في مكان ما، وقد ورد أن هذا الملك خلف الملك خاراخِن - أو شاراشن كما كتبه مسعد - في الحكم. فنحن أمام أربعة نصوص تتعلق كلها بحكم البليميين منطقة في صعيد مصر. وتسوق هذة الوثائق العديد من الأسئلة عن علاقة البليميين بصعيد مصر وإقليم طيبة، ومدى امتداد نفوذهم عندما دخل المسلمون مصر في القرن السابع الميلادي، أي في القرن الذي تلى عمر هذه الوثائق.
أما عن وجود البليميين في شمال السودان بعد هزيمتهم على يد سلكو ملك النوباديين فإن أغلب المؤلفين يرون انهيار ونهاية مملكتهم وانتشارهم في الصحراء غربي النيل. وقد ورد ما يؤكد وجودهم في المناطق القريبة من النيل واعتاقهم السيحية على المذهب اليعقوبي، وقد ورد ذلك فيما أورده يوحنا الأفسوسي عن عن تنصير ملك علوه.
ومن المعروف أن مملكة النوباديين اعتنقت المسيحية علي المذهب اليعقوبي بخلاف مملكة المقرة التي اعتنقته على المذهب الملكاني. وقد تنافس اتباع المذهبين على تنصير ملك علوة الذي فضل اتباع المذهب اليعقوبى . فأرسل رسله إلى ملك نوباديا يطلب منه إرسال القس لونجينوس ليتم ذلك على يديه. وقد روي يوحنا الأفسوسي تلك الأحداث ونرجع اليها هنا فيما ذكره وليمز بهذا الصدد.
"دبر ملك المقرة الملكاني خطة لإعاقة وصول لونجينوس إلى مملكة علوة لأن طريقه إلى علوة يمر عبر أرضيهم. ولكي يتفادى الوفد هذا الخطر أتصل ملك النوباديين بملك البليميين لكي يساعد البعثة على الوصول لعلوة. وجاء في رسالة ملك نوباديا: "ولكن بسبب المكيدة الخبيثة التي دبرها ذلك الذي يقيم بيننا [ملك المقرة] فقد أرسلت أبي البار إلى ملك البليميين ليوصله إلى داخل البلاد"
يدل هذا على أن البليميين كانوا يقيمون بجوار مملكة المقرة المسيحية وأنهم اعتنقوا المسيحية على المذهب اليعقوبي وهي المعلومات التي وردت في نص الادريسي رقم 1 ونص ابن الوردي رقم 3 عن البليين مما يؤيد رأيي كيروان ومسعد الذان جعلا البليين هم البليميين. غير أن مسعد يرجح أن البيليين وأسلافهم البليميين يرجعون إلى أصل عربي . ويرى مسعد أن لفظ البليميين – كما نطقه اليونانيون والرومان - ما هو إلا تحريف لكلمة بِلاوي التي تدل في لغة التبداوي البجاوية على العرب. وأرى أن هذا الرأى ليس مقبولاً وستتم مناقشته لاحقاً.
وإشارة الروم في النصوص ترجع إلى علاقة البليين بالبيزنطين، وربما نزح بليميي الصعيد الذين كانوا على صلة قوية بالبيزنطيين جنوباً بعد دخول المسلمين مصرفازدادت قوتهم في الجنوب بالقدر الذي وصفوا به في لمن
طقة الواسعة التي انتشرو فيها ما بين النيل في شمال السودان وصعيد مصر وبين البحر الآحمر.
وإذا قبلنا الرأي الذي يقول أن بليين الادريسي هم البليميين – وأرى أنه رأي مقبول – نتقدم خطوة أخرى لرؤية الآراء التي ربطت البليميين بالبلو، فقد تم الربط بين البلو وبين الكثير من القبائل والمناطق بي بلاد البجة وسنتعرض لذلك عند الحديث عن البلو.
ومن الملاحظ أن المصادر العربية لم تتعرض لذكر البليميين ما عدا الادريسي وابن الوردي، فلماذا لم تتعرض المصادر للبليميين ذوي الثقل الواضح في صعيد مصر قبل أن يدخله المسلمون؟ لا شك أن الأمر يحتاج إلي المزيد من العناية والبحث خاصة وأن المصادر العربية لا تمدنا بمعلومات وافية عن فتوحات وحروب المسلمين المبكرة في عصري عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد في صعيد مصر كما فصلت عن الحروب في الوجه البحري. والمؤلف الوحيد الذي أورد تلك المعلومات هو الواقدي الذي يسيطر طابع الملاحم وعدم الدقة فيما كتبه عن تلك الحروب.
غير أن افراد ولاية خاصة لصعيد مصر منفصلة عن ولاية عمرو بن العاص تولاها عبد الله بن سعد بن أبي السرح في الخمس سنوات الأولى من دخول المسلمين توضح أن الأحداث في الصعيد قد تطلبت تلك الادارة المنفصلة. ولكن سكوت المصادر العربية عن تلك الأحداث يتطلب أيضاً المزيد من العناية والبحث. والمعلومات القليلة الوارة هنا وهناك في المصادر تحدثت عن البجة في الفترة المبكرة،. فابن حوقل – مثلاً – يقول:
"فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما فتح مدينة أسوان، وكانت مدينة أزلية قديمة، وكان عبر إليها من الحجاز وفهر جميع من كان بالصعيد وبها من فراعنة البجة وغيرهم." تؤكد مثل هذه المعلومات وجود البجة في صعيد مصر ومشاركتهم أهل الصعيد في حروبهم ضد المسلمين.
ومرة أخرى نتساءل لماذا سكت الكتاب الذين تناولو المنطقة عن ذكر البليمين، مثل اليعقوبي وهو أول من أورد معلومات مفصلة عن قبائل البجة وممالكهم في القرن الثالث الهجري (9 م) وابن حوقل في القرن الرابع الهجري وهو الذي زار المناطق الشرقية من أرض البجة وكتب معلومات كثيرة عن قبائلهم. وكذلك المسعودي في القرن الرابع الهجري (10 م) الذي استقر في مصروقتعض ال لب ولا فيما نُقل عن ابن سليم الأسواني الذي زار مملكة المقرة في القرن الرابع الهجري (10 م)
يبدو معقولاً أن المصادر قد أشارت إلي البليين ولكن تحت أسماء أخرى. فالمصادر تذكر أحياناً اسم البجة لوصف كل القبائل بصورة عامة دون التعرض لأسمائهم. فابن سليم مثلاً (مسعد ص 113) يقول: "والبجة الداخلة ... حالهم في الظعن والمواشي و... كحال الحداربة." وإشارة ابن حوقل السابقة للبجة في منطقة أسوان يبدو معفولاً أن المقصود بها البليميين. وهنالك احتمال آخر يبدو معقولاً جدّاً وهو أن تلك المصادر تناولت هذه القبيلة ولكن تحت أسم آخر. فالمنطقة التي تحتلها قبائل البجة الحالية كانت ذات ثقل سكاني واضح وقبائل متعددة كما سيتضح فيم يلي.
الخاتمة
عرَّفت المصادر بسكان السودان منذ القرن العشرين قبل الميلاد أي منذ ما يزيد قليلاً على الأربعة ألف سنة. واتضح التداخل والصلة العرقية بين سكان ما بين البحر الأحمر شرقاً ومناطق درافور غرباً وبين منطقة حلفا شمالاً ومناطقة السدود جنوباً. وهؤلاء السكان يمثلون جزءاً من السكان الأصليين للقارة الافريقية، لم يهاجروا إليها من الخارج بل تكونوا نتيجة التفاعل الطبيعي بين المناطق الغنية بالموارد المائية المتمثلة في النيل وبين المناطق ذات الموارد المائية القليلة المتمثلة في الصحراء غربي النيل.
ولا أود الخوض في أجناس القارة الافريقية ولكنني أشير إلى أنه ليس هنالك جنس واحد فقط في افريقيا كما ليس هنالك جنس آسيوي أو جنس أمريكي. توجد أجناس متعددة آسيا وفي أمريكا وأجناس متعددة في افريقيا، وأجناس افريقيا تتفاوت ألوانها ما بين الأبيض في شمال افريقيا والأسمر في مناطق السافنا والأسود جنوبي الصحراء.
ويتضح من المصادرر أن سكان السودان حتى القرن الخامس عشر كانوا خليطاً من اللون الأسود (سودان) والأسمر كما ذكر القلقشندي عن النوبة (مسعد ص 284) "ولون بعضهم يميل إلى الصفاء، وبعضهم شديد السواد" أو كما قال ابن حوقل عن البجة مسعد ص 64 " وألوانهم أشد سواداً من ألوان الحبش" واللون المائل إلى الأبيض يمثلة أمازيغ شمال أفريقيا.
واتضح من المصادر العربية أيضاً أن كل المنطقة الواقعة في حدود السودان الحالية كانت مأهولة بالسكان. فقد ورد الحديث عن أكثر من ثلاثين تجمعاً سكانيّاً ما بين أمم وقبائل مثل أمة تكنة خلف علوة، وأمة كرسي التي وصفت بأنها أمة كثيرة، و الأحديون الذين وصفوا بأنهم "أمم مختلفة ولغات كثيرة متشابهة لا يحاط بها ولا يبلغ غايتهم". وبازين وباريه في شق خور بركة الذين وصفهم ابن حوقل (مسعد ص 64) بأنهم "أمم كثيرة"
ووُصِفت القبائل بأنها كقبائل العرب لها أفخاذ وبطون كما لقبائل العرب. فقد قسم ابن حوقل (مسعد ص 72) قبيلة الحداربة في شرق السودان إلى سبعة بطون وقال عنهم: "ويتفخذ لهؤلاء القوم كل بطن إلى نحو مائة فخذ" وعن قبيلة بيواتيكة البجاوية قال(ص 71) " تزيد على الاحصاء ولا يُبلغ عددها"
فالسودان بحدوده الحالية كما تحدثت عنه المصادرالمصرية والمروية واليونانية والعربية كان ذا كثافة سكانية عالية، وأولئك السكان هم سكان أصليون في القارة الافريقية، ربطتهم المصادر بتراب هذه الأرض منذ القرن العشرين قبل الميلاد وحتى القرن الخامس عشر الميلادي. وفجأة اختفت أسماء تلك القبائل والتجمعات السكانية المتعددة بعد القرن الخامس عشر ولم نجد من تلك الأسماء إلا القليل النادر مثل النوبة والخاسة والحلنقة والزغاوة، فكيف اختفت تلك الأسماء؟
هل انقرضت وأصبحت من القبائل البائدة في طرفة عين من عمر الزمن، وظهرت في مكانها ومنذ القرن السادس عشر الميلادي قبائل وسكان جدد؟ وإذا لم يكن ذلك كذلك فما هي الصلات بين القبائل القديمة والجديدة؟ وكيف ولماذا تغيرت المسميات؟ لا بد من البحث الجاد للاجابة على مثل هذه الاسئلة لنصل حاضرنا بماضينا القريب جدّاً.